فصل: قال أبو حيان في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن القلب هو مصدر النية التي يتبعها السلوك، فالذي يحرك إنسانًا مَوْتورًا منك ويثير جوارحه ضدك، إنما هو القلب، فإن وجدت إنسانًا يعبس في وجهك فافهم أن في قلبه شيئًا، وإن لقيته وحاول أن يضربك فافهم أن في قلبه شيئًا أكبر، وإن حاول أن يقتلك، يكون في قلبه شعورٌ أعمق بالبغض والكراهية.
إذن فالينبوع لكل المشاعر هو القلب. ولذلك نرى الإنسان يُضَحِّي بكل شيء وربما ضحَّى بحريته وبماله في سبيل ما آمن به واستقر في قلبه، ونحن نرى العلماء في معاملهم يعيشون سنوات طويلة ويحرمون أنفسهم من متع الحياة الدنيا لأن العلم قد تحول إلى عقيدة في قلوبهم سواء أكانوا مسلمين أم غير ذلك، فكانما نية القلب وما يستقر فيها هي أقوى ما في الحياة.
ثم يبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا فضل عظيم منه أن ألف بين قلوب المؤمنين؛ فيقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
والتأليف بين القلوب هو جماع التواد والمساندة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير رضي الله عنهما: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله».
والحديث بتمامه: «انّ الحلال بِّين وإن الحرام بَيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
ولم تكن المسألة في تأليف القلوب مسألة احتياج إلى مال؛ لأن المال لا يمكن أن يعطي الحب الحقيقي، ولذلك فهناك بين الناس ارتباط مصالح وارتباط قلوب، وارتباط المصالح ينتهي بمجرد أن تهتز أو تنتهي هذه المصالح، لكن ارتباط القلوب يتحدى كل الأزمات، وأنت لا تستطيع أن تجعل إنسانًا يحبك حقيقة مهما أعطيته من مال؛ لأن الحب الحقيقي لا يشترى ولا يباع، إنما يشترى النفاق والتظاهر وغير ذلك من المشاعر السطحية. والعرب الذين ألف الله بين قلوبهم لم يكن يهمهم المال بقدر ما تهمهم الحمية والعصبية، فغالبيتهم يملكون الثروات، ولكن الفُرْقة فيما بينهم نابعة من الحمية والعصبية التي تجعل في القلوب غلًا وحسدًا وحقدًا؛ لذلك تنفعل جوارحهم. يقول الحق تبارك وتعالى: {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
وما دام الله سبحانه وتعالى له عزة فهو لا يغلب، وما دام حكيمًا فهو يضع الأمور في مكانها السليم، والله سبحانه وحده هو القادر على أن يجعل القلوب تتآلف؛ لأن القلوب في يد الرحمن يقلبها كما يشاء، لذلك ندعو بدعاء رسول الله: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فعن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة رضي الله عنها يا أم المؤمنين ما أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
وسبحانه وتعالى يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيتين:

{وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين}.
أي وإن يرد الجانحون للسّلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة والغدر مخادعة فاجنح لها فما عليك من نياتهم الفاسدة {فإنّ حسبك} وكافيك هو {الله} ومن كان الله حسبه لا يبالي بمن ينوي سوءًا ثم ذكره بما فعل معه أولًا من تأييده بالنّصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أوّلًا يلطف بك آخرًا والمؤمنون هنا الأوس والخزرج وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لولا الإسلام لينقضي أبدًا ولكنه تعالى منّ عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قربًا.
ومعنى {لو أنفقت ما في الأرض جميعًا} على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضًا وكونها في الأوس والخزرج، تظاهر به أقوال المفسرين، وقال ابن مسعود: نزلت في المتحابّين في الله، قال ابن عطية ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان بين جمعهم فكل يألف في الله.
وقال الزمخشري: التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا من الآيات الباهرة لأنّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتحدوا وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ وأماط عنهم من التباغض وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلاّ من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد انتهى، وكلامه آخرًا قريب من كلام أهل السنة لأنهم قالوا في هذه الآية دليل على أنّ العقائد والإرادات والكراهات من خلق الله لأنّ ما حصل من الألف هو بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان الإيمان فعلًا للعبد لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلًا للعبد وذلك خلاف صريح الآية، وقال القاضي: لولا ألطاف الله تعالى ساعة ساعة ما حصلت هذه الأحوال فأضيفت إلى الله على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذلك هنا انتهى، وهذا هو مذهب المعتزلة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}
الجنوح: الميل، يقال جنح الرجل إلى الرجل: مال إليه ومنه قيل للأضالع جوانح، لأنها مالت إلى الحنوّة، وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير، ومنه قول ذي الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه ** بذكراك والعيس المراسيل جنح

ومثله قول عنترة:
جوانح قد أيقنّ أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

يعني الطير، والسلم: الصلح.
وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها.
وقرأ العقيلي {فاجنح} بضم النون، وقرأ الباقون بفتحها.
والأولى: لغة قيس، والثانية: لغة تميم.
قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤوّلة بالخصلة، أو الفعلة.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل هي منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وقيل: ليست بمنسوخة، لأن المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصة بأهل الكتاب.
وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ} [محمد: 35] وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزّة وقوّة، لا إذا لم يكونوا كذلك، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرّر في مواطنه {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في جنوحك للسلم، ولا تخف من مكرهم، ف {إِنَّه} سبحانه: {هُوَ السميع} لما يقولون {العليم} بما يفعلون.
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بالصلح، وهم مضمرون الغدر والخدع {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي: كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر، وجملة {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} تعليلية، أي لا تخف من خدعهم ومكرهم، فإن الله الذي قوّاك عليهم بالنصر فيما مضى، وهو يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقوّيك عليهم عند حدوث الخدع والنكث، والمراد بالمؤمنين: المهاجرون والأنصار، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} وظاهره العموم وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله.
وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة، فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضًا ولا يحترم ماله ولا دمه، حتى جاء الإسلام فصاروا يدًا واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية، وجملة {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مقرّرة لمضمون ما قبلها.
والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حدّ لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف، لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جدًّا {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بعظيم قدرته وبديع صنعه {إِنَّهُ عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور {حَكِيمٌ} في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} قال: قريظة.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: نزلت في بني قريظة نسختها: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} [محمد: 35] إلى آخر الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: السلم الطاعة.
وأخرج أبو الشيخ عنه في الآية قال: إن رضوا فارض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ في الآية قال: إن أرادوا الصلح، فأرده.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في الآية قال: نسختها هذه الآية: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] إلى قوله: {وَهُمْ صاغرون} [التوبة: 29].
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، والنحاس في ناسخه، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: ثم نسخ ذلك: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَإن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ} قال: قريظة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وبالمؤمنين} قال: بالأنصار.
وأخرج ابن مردويه، عن النعمان بن بشير نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، نحوه أيضًا.
وأخرج ابن عساكر، عن أبي هريرة، قال: مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، أنا الله وحدي لا شريك لي، ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلمي، وذلك قوله: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين}.
وأخرج ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود، أن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعًا} الآية.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، واللفظ له عن ابن عباس قال: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب، يقول الله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعًا} الآية.
وأخرج ابن المبارك، وعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، والبهيقي عنه نحوه.
وليس في هذا عن ابن عباس ما يدلّ على أنه سبب النزول، ولكن الشأن في قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله مع أن الواقع قبلها {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} والواقع بعدها {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] ومع كون الضمير في قوله: {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} يرجع إلى المؤمنين المذكورين قبله بلا شك ولا شبهة، وكذلك الضمير في قوله: {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} فإن هذا يدلّ على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.